العجز .. قصه قصيرة
جلست في عيادتي الخاصة بعد انتهائي من الكشوف اليومية المعتادة أنظر إلي صورة الأشعة المقطعية للمرة المائة في يأس تام بعد أن بحثت في كل مراجعي وصنعت منها ألف نسخه وأرسلتها بالفاكس إلي كل الأطباء في العالم لتأتي الإجابة الوحيدة والمؤلمة .
بدأت أسترجع سنواتنا معاً منذ أن التقينا واشتبكنا واختلفنا ولكنها سرعان ما عادت وقدمت لي اعتذار هادئ ورقيق هنا فقط أدركت كم هي رقيقه ورومانسيه وحانية كم هي عاقله ورائعة وجميله وجمعتنا أجمل قصة حب غار منها أصدقائي قبل صديقاتها وارتبطنا ورغم ما واجهناه في البداية من مشكلات وصعوبات إلا أنها ظلت تقف بجانبي وتشد من أزري وتمنحني حبها حتي تحقق ما تحقق لي الآن من نجاح وشهرة وليثمر بعد ذلك زواجنا بطفلتين وصدمت بعدها ليس لأنني لم أنجب الولد الذي سيحمل اسمي وأنجبت بنتين بل بسبب زوجتي التي اختارها القدر مبكراً لتكون إحدى ضحاياه .
شعور بالقهر والمرارة يمتلأ به حلقي حينما أقف أمام جسدها الضئيل الممدد والمتصل به عدد من الأنابيب الرفيعة المتصلة بجهاز رسام المخ أنظر إليها بحب وحنان وشفقه لحالها كم هي صبورة وتحملت علي نفسها أوجاع المرض كلما سألتها وطلبت منها بضرورة إجراء الفحوصات لمعرفة أسباب تلك الزغلله والدوخة والصداع ادعت بمرحها المعتاد محاولة إقناعي أنها مجرد أعراض عاديه ناتجة عن الإرهاق وتقدم السن ورغم أن شيئاً مجهولاً كان يعربد في أعماقي ويمنحني الخوف والقلق إلا أنني فضلت عدم إجبارها علي فعل شيء لا ترغب فيه ولكن هذه المرة لم يكن من الممكن السكوت فيها بعد أن سقطت مغشي عليها .
لقد أصيبت بورم خبيث في المخ ولا أمل لها في الحياة سوي أيام أو شهور معدودة هكذا اتفق الجميع وحكموا عليها بالإعدام والآن تنتشر الخلايا الخبيثة لتتخلل خلايا المخ وتقتلها تدريجياً وفي نفس الوقت تقتلني معها لقد أصبحت امرأة يطاردها الموت في لهفه لينتزعها من بين أحضاني وأحضان طفلتين لم يشبعا بعد من عطف الأم وحنانه وليسجل اسمها في عداد الموتى لا يمكن التدخل الجراحي لاستئصاله أو علاج كيماوي وغيره لا يمكن حتي وقف تلك الخلايا اللعينة عن تدميرها ولكنني لم أصدق حرفاً واحداً كجاهل لا يعرف شيئاً عن الطب شعور داخلي كان يمنعني من ذلك إنها لا يمكن أن تتركني هكذا إنها تحبني .
ياليتني كنت مكانها ياليت يومي كان قبل يومها وياليتها تعرف الآن كم أنا أحبها وأعشقها وأذوب في كيانها وكم أنا أتألم لعذابها وفراقها وأنا أقف عاجز عن إيجاد أي دواء يفيد لمرضها في تلك اللحظة حاصرتني كل مشاعر البغض والكراهية لتلك المهنة مهنه الطب وشعرت لأول مره بشعور المريض وليس الطبيب ووددت أن أحطم كل ما أمامي وأصرخ صرخة قويه أفرغ معها كل ما بداخلي من عجز وفشل وبدأ جنوني يزداد ويتضاعف كلما سيطر عليها المرض وكلما رأيتها أمامي تنهار يوماً خلف الآخر كيف يقف العلم بكل وسائله التي يقولون عنها متطورة هكذا عاجز عن علاجها ؟ ألن تنتهي مآسينا أبداً ؟ هل هو ابتلاء من الله لعباده المؤمنين؟ بمجرد أن خطر ببالي هذا التساؤل حتى انتفض قلبي وخلفه انطلق رنين التليفون وبسرعة تلقائية امتدت يدي لتمسك بالسماعة ولكني فجأة تركتها ليراودني شعور بالخوف هل ستحمل تلك المكالمة أسوء نبأ تلقيته في حياتي؟ هل هو المشهد الأخير من .. ؟ هل ... ؟
توقفت غصة كبيره في حلقي منعتني من ابتلاع ريقي ومن إلقاء أي تساؤل آخر ولأنني لم أكن أملك في تلك اللحظة سوي اللجوء إلي الله والدعاء بأن يأتي الموت بسرعة كي يخفف عنها عذاب والآم المرض وعني ألام الشعور بالعجز وتركت التليفون يواصل رنينه المستمر ودموعي المنهمرة تزداد مع تزايد شعوري باليأس والعجز كل مشاعر العجز.
بقلم / د. إسلام زايد