حياة في عالم ميت
هدوء.. صمت.. ظلام..وحشة..أرض بلا نبات..سماء بلا نجوم..قمر بلا نور..بحر بلا ماء..جسد بلا روح..إنسان بلا قلب.. مرحباً بكم في عالمي الفريد ..لم أكن أود أن أترك عالمكم و أعيش وحدي بمعزل عن الناس ، و لكن تبين لي من خلال كثرة التجارب و انعدام التجاوب أنه لم يعد وجودي في عالمكم ينفع في شيء ، لن أنكر أن عالمكم جميل جداً ، ولن أنكر أيضاً أنكم كنتم كرماء معي و استحملتم شؤمي و يأسي و ظلمات أفكاري .. لن أنكر كل هذا.. عند لقائي بكم و عندما وضعت قدماي لأول مرة في عالمكم ، كنت سعيداً جداً ، كنتم فرحين بي لدرجة لا توصف ، فقد رأيتم آمالكم تتحقق في عيناي..رأيتم حقوقكم آمنة في قبضة يداي..و رأيتم أيضاً مستقبلكم زاهراً منيراً يكبر و يكبر حينما أخطوا كل خطوة إلى الأمام بقدماي.. كان لي قلب فأحببتكم به ..كانت لي روح فسخرتها لخدمتكم و التطلع على أحوالكم.. كنت أمتلك الكثير من الأشياء و كنتم أشد حاجة لها مني.. ، لن أبخل عليكم بها ، ها أنا اليوم أضعها بين أيديكم ، لم أعد بحاجة لكل هذه الأشياء.. ما عادت تنفعني بشيء ..فأنا بعالمي الجديد أستطيع العيش بدونها ..أتذكرون ذاك اليوم؟! حينما كنا مجتمعين سوية و الأشجار طوقتنا من كل جانب زينت بطيور تناثرت فوقها وتطير من غصن لآخر..لم نكن نعبأ كثيراً بهذه التفاصيل ، ربما كانت مسألة طبيعية و عادية بالنسبة لنا ..! كنا نخوض في أحاديث كثيرة و لا نثير أي اهتمام لما هو حولنا .. عالمكم ساحر لكن تغلب عليه الضوضاء فتنسينا ما يحيط بنا.. ربما أنتم تحبونه و ألفتموه لأنكم رضيتم بكل مكوناته ، رضيتم بضوضائه كما رضيتم بذله.. رضيتم بأن تخضعوا له..رضيتم بالضعف .! ولكن هل سألتم أنفسكم أعالمكم راضٍ عنكم ؟! كنت مثلكم راضي بما فيه من طيب و خبيث ..ولكن عندما سألت نفسي هذا السؤال ، علمت أنه غير راضٍ عني ، علمت أنه لا يطيقني وأنا أشم هواه و أنا أمشي فوق نباته و أنا أخترق بحره و سماه بعيناي هاتين..علمت بكرهه لي ، فشعرت وكأنه يطردني .. لأنه يراني غير جدير بالعيش فيه و الإنتفاع بخيراته ، نعم فأنا لم أقدم له أي شيء حتى يكون راضٍ عني .. لم أقدم له سوى الشجب و الشكوى و التعاسة و اليأس و الذل... فكيف يكون راضٍ عني و ييسر لي العيش تحت ظِلاله ؟! حتى أنتم بعدما أخذتم كل ما تحتاجون مني خليتم سبيلي و رميتموني بحفرة لا نهاية لها..أخذتم آمالي وحقي و مستقبلي ..ماذا أفعل إذاً..؟ أهكذا هو عالمكم ..؟ أهكذا أنتم تُرضونه..؟
لم أعد أقوى على استيعاب ما يحيط بي ..عالم سمائه مليئة بالنجوم و الأقمار لكن سرعان ما ينطفئ نورها..عالم أرضه زينتها ورود و أزهار لكن إذا اقتربت منها تنفر منها لخبث رائحتها ..عالم بحره جميل هادئ..و ماؤه لامع طاهر لكن إذا حاولت السباحة ستجد نفسك تترامى بين أمواجه الغادرة ثم يبتلعك حتى تستقر بقعره.. عالم به أسواق كثيرة لا عِداد لها.. تباع و تشترى فيها القلوب و الأرواح..
عالمكم جميل جداً، لكنه طردني لأني لست مثلكم ، فضَّل بقائكم من رحيلي ، لأني رفضت الخضوع له ..رفضت أن أكون نجماً فيذهب نوري..رفضت أن أكونا ورداً فتتدنس رائحتي..رفضت السباحة فتذهب شجاعتي..رفضت المساومة في قلبي و روحي فتزول إنسانيتي..رفضت العيش بك يا عالم الغدر... كانت هذه آخر كلمات قلتها قبل الشروع في إنشاء عالمي الجديد الخاص بي، حيث أكون راضٍ عنه و يكون راضياً عني.. قررت أن يكون عالماً بلا نور و بلا نبات..عالم يغلب عليه السكون و الظلام ..و كذلك أنا.. استخلصت قلبي و روحي حتى يكون بيننا تلاؤم و توافق..ربما تتساءلون هل سأعيش في عالمي الصامت وحيداً..!! لا..! لأن هناك الكثير منكم سيطرح نفس السؤال الذي طرحته على نفسي من قبل.. وسيقرر الرحيل و البحث عن البديل..عن عالم آخر يرضى به..!